بقلم الدكتور إبراهيم عبدالله المطرف
إنطلقت في واشنطن العاصمة اليوم ، الاربعاء الرابع عشر من اكتوبر2020 دورة جديدة من الحوار الاستراتيجي السعودي الامريكي ، أكد الطرفان خلالها على الإلتزامات المشتركة لتعزيز العلاقات الثنائية الوثيقة امنيا وتنمويا ، والشراكة الاستراتيجية التي يرتبطان بها منذ عقود طويلة .
وكانت العلاقات السعودية الدولية ، قد شهدت منذ ان تولى الملك سلمان بن عبدالعزيز الحكم تطورا ملحوظا ، تميز بزخم كبير في الانفتاح على مختلف القوى الدولية المؤثرة ، كما شمل إنفتاحا في العلاقات مع القوى الفاعلة إقليمياً وعربيا وخليجيا .
إلا أن أبرز ما تميز به “الحراك” السعودي في هذا الإطار ، هي تلك الدوائر التي إتسعت لهذا الانفتاح على العالم ، والتي يظهر فيها بوضوح ، الاتجاه نحو “الشرق” متمثلا في دول آسيا بشكل عام ، ودول جنوب شرق آسيا على نحو خاص . كما يظهر الاهتمام السعودي بتعميق علاقات المملكة ، بالقارة السمراء وقواها الحية والصاعدة ، وتفاعلاتها المؤثرة عالميا وإقليميا
وفي هذا الإطار ، يمكننا أن نلاحظ اهتماما كبيرا بالقوى المؤثرة عربيا ، إلى جانب توطيد علاقة المملكة بالمنظمات الدولية ، اضافة إلى علاقات المملكة بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودوله الفاعلة والمؤثرة ، ووضع روسيا في بؤرة الاهتمام من جديد .
وسنلقي الضوء في هذه المقالة ، على نموذج العلاقات بين المملكة والولايات المتحدة الأمريكية ، التي تعد من أكثر العلاقات الدولية للمملكة تميزًا ، ومن أبرزها قوة ، وتمتعا باستقرار يقوم على الاحترام الكامل والمتبادل ، والفهم العميق لموقع “القوتين” في محيطيهما العالمي والإقليمي ، ما جعلها علاقة تتسم بأبعاد استراتيجية ثابتة ومتينة ، على الرغم من الغيوم التي سادت سماء العلاقة ، في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر 2001 .
لقد أتاحت أجواء الصداقة والتفاهم بين البلدين ، أن تصل إلى درجة “الشراكة” في العديد من القضايا و“الملفات” الدولية والإقليمية ، منذ إرساء أسس هذه العلاقة ، عقب نهاية الحرب العالمية الثانية ، في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي
ترجع بداية العلاقات السعودية الأمريكية إلى 1931 ، العام الذي تفجرت فيه ينابيع النفط في المملكة ، وظهرت بشائر إنتاج النفط في البلاد على نحو تجاري ، عندنا منح المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن رحمه الله ، شركة “ستاندرد أويل Standard Oil” الأمريكية حق التنقيب عن النفط . وقد مثلت علاقة المملكة الاقتصادية بـ “ستاندرد أويل“ مدخلا قويا لتأسيس العلاقة الثنائية بين البلدين ، كما كانت بداية انطلاق حقيقية لعلاقة تاريخية ، ربطت البلدين لأكثر من ثمانين عاما . وأعقبها عام 1933 توقيع اتفاقية تعاون بين البلدين ، دعمت العلاقة الاقتصادية وأدت إلى تعزيزها . وكانت بداية انطلاقة حقيقية ، لعلاقات تاريخية ، ربطت البلدين ، منذ اكثر من ثمانين عاما .
وبعد عام من توقيع اتفاقية 1933 ، عزز الملك عبدالعزيز رحمه الله العلاقات الثنائية بلقاء تاريخي عام 1945 ، جمعه بالرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت ، على متن الطراد الأمريكي يو إس إي كوينسي ، وهو اللقاء التاريخي الذي وصف بنقطة التحول في انتقال علاقات المملكة والولايات المتحدة إلى مرحلة التحالف الاستراتيجي في مختلف المجالات ، لتعمل المملكة بعدها على تسخير هذه العلاقة ، في تلبية مصالحها الوطنية مع دول العالم ، وخدمة قضايا الأمتين العربية والإسلامية .
لقد خطت المملكة لنفسها ، سياسة حكيمة تعتمد على مبادئ الشريعة السمحاء ، التي تحترم حسن الجوار ، وتعزز العلاقات بالأسرة الدولية ، دون الإخلال بثوابتها الدينية ، ورفع مكانتها الإقليمية والدولية في مختلف المجالات ، دون أن تتدخل في شؤون الغير ، ورفض أي سياسة تتدخل في شؤونها الخاصة ، ما جعلها تفرض احترامها على دول العالم ، وتصبح عضوا فاعلا في مختلف محافله وتنظيماته .
وبذلك ، حظيت المملكة باهتمام عالمي عام ، وأمريكي خاص ، نتيجة مكانتها السياسية والإسلامية والاقتصادية ، وباتت المملكة إحدى مرتكزات الأمن الاستراتيجي في المنطقة العربية ، وزادت ثروتها النفطية من دورها الدولي ، في إحداث توازن في الاقتصاد العالمي على مر السنين ، بعد ان تحول النفط إلى سلعة عالمية ، أثرت على اقتصاديات العديد من الدول المستهلكة له .
وفضلا عن ذلك ، فان إطلالة المملكة على سواحل البحر الأحمر والخليج العربي ، أعطتها موقعا متميزا في “جغرافية” المنطقة ، وامتد ذلك ليصنع للمملكة دورا وتأثيرا ونفوذا واضحا في “الجغرافيا السياسية” لإقليم الشرق الأوسط .
وبرؤية عميقة لهذا “الدور” وما يترتب عليه من “رسالة” و“مسؤوليات” شرع الملك سلمان بن عبدالعزيز في استكمال ما أسسه والده يرحمه الله من فكر استراتيجي حكيم ، يسهم في تعميق علاقات المملكة مع دول العالم ، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية .
ولم يستكمل الملك سلمان ما بدأه المؤسس فحسب ، بل قام بالبناء عليه وفقا لمعطيات العصر ومستجداته ، وعلى النحو الذي يحقق التكامل في المصالح السعودية الامريكية .
ويبرز في تاريخ العلاقات السعودية الأمريكية العديد من المحطات المهمة ، التي تعد مرتكزًا أساسيًا في دعم مسيرة العلاقات بين البلدين ، يأتي على رأسها الزيارات المتبادلة بين القيادات السعودية والأمريكية .
ومن بين اهم تلك الزيارات خلال السنوات الخمس الاخيرة ، زيارة الملك سلمان في 2015 عندما كان وليا للعهد ، بحث فيها تعزيز العلاقات بين البلدين ، خاصة في المجال العسكري والاستراتيجي المشترك ، وتطورات الاحداث في المنطقة .
ويليها الزيارة التي قام بها الملك سلمان بن عبدالعزيز في 2017 ، التي أجمع المراقبون والمحللون السياسيون والأكاديميون ، على أنها “تاريخية” بكل المقاييس ، حيث أسست لتحولات عميقة في العلاقات الثنائية .
ولقد جاءت زيارة الملك سلمان إلى واشنطن في 2017 ، لتؤكد عمق العلاقات الاستراتيجية التي تربط البلدين ، وهي علاقة لم تكن وليدة اللحظة التاريخية الراهنة ، كما أنها لم تولد اليوم ، إذ تمتد بجذور تاريخية لعقود طويلة مضت ، متجاوزة الكثير من التحديات .
ويجمع المراقبين السياسيين وكتاب الشأن الدولي ، بان العلاقات السعودية الامريكية ، قد حظيت بلحظة تحول تاريخية بوصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الى الحكم ، حيث أعاد الأمور الى مسارها الصحيح ، وشكل نقلة كبيرة للعلاقات بين البلدين ، في المجالات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية ، بعد ان مرت بفترة من التباعد في وجهات النظر في العديد من الملفات .
وبحسب “بلومبرغ” فإن تفهم الرئيس ترامب للعلاقات السعودية الأمريكية ، عكس حرصه على تجديد التحالف ، بعد توترات شهدتها العلاقة ، في عهد الرئيس السابق باراك أوباما ، الذي صاغ الاتفاق النووي مع إيران في 2015 .
وفي هذا الاطار ايضا ، ذكر سايمون هندرسون ، من معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى ، أن ادارة ترامب الجديدة كانت تنظر إلى السعودية كجزء جوهري من الشرق الأوسط ، ودولة مهمة ، لتحظى بعلاقة إيجابية معها .
وعندما نستعرض التطور التاريخي للعلاقات بين البلدين ، ينبغي ألا يغيب عن الذهن أن “الاقتصاد” كان ولا يزال لاعبا مهما في هذه العلاقة ، وأن النفط على نحو خاص كان له دور كبير فيها ، ومع ذلك لا بد أن نشير إلى أن علاقات المملكة بالولايات المتحدة ، لم تقتصر على هذا الجانب ، وأن العلاقات بينهما مرت بتحولات مهمة متجاوزة النفط إلى الشراكة .
وكما اشرنا اعلاه ، فقد بدأت العلاقات الاقتصادية في 23 فبراير 1930 ، لكنها توثقت بشكل أكبر في 1931 ، توازيا مع بدء التدفق التجاري للنفط السعودي ، ومع قرار المؤسس يرحمه الله ، بمنح حق التنقيب عن النفط لشركة ستاندرد أويل ، بعقد يستمر لمدة 66 عامًا .
ويعد عام 1932 ، عامًا مميزًا في العلاقات الثنائية ، حيث شهد البلدان حدثين مهمين: الأول ، توحيد الدولة السعودية تحت مسمى المملكة العربية السعودية ، وتوقيع الاتفاقية الدبلوماسية التجارية المؤقتة بين البلدين . والثاني كسر أمريكا لطوق عزلتها عن العالم الخارجي ، ومساندتها لشركاتها ولاستثماراتها في الخارج ، فجاءت الاتفاقية متزامنة مع الإصلاحات الاقتصادية في المملكة ، التي عززتها اتفاقية التنقيب عن النفط مع الشركات الأمريكية ، التي وصفها المحللون ، بأنها أول معاهدة بين البلدين تخص التمثيل السياسي والقنصلي .
وقد زاد عدد الشركات الأمريكية التي تأسست في المملكة خلال الخمسينات على 200 شركة ، وبرزت شركات عاملة في البلاد مثل شركة “ستاندرد أويل” النفطية التي انضمت فيما بعد لنظيراتها شركات “موبيل Mobile” و “إكسون Exxon” و “تكساكو Texaco” ، لتشكل شركة الزيت العربية الأمريكية “أرامكو” ، التي تحولت فيما بعد الى “أرامكو السعودية” بملكية سعودية كاملة .
ولقد انتقلت العلاقات الاقتصادية بين البلدين في يونيو عام 1974 إلى مرحلة جديدة من التعاون ، عقب توقيع الملك فهد بن عبدالعزيز يرحمه الله ، عندما كان نائبا ثانيًا لرئيس مجلس الوزراء ، على “بيان مشترك” مع الولايات المتحدة ، يقضي بتأسيس “اللجنة الاقتصادية السعودية الأمريكية المشتركة” في مرحلة كانت تشهد فيها المملكة زيادة في مشروعات التنمية .
وقد إستجابت هذه الاتفاقية إلى تطلعات شركات أمريكية كبرى ، تبحث عن عقود عمل في المنطقة العربية ، من خلال الإفادة من إعادة تدوير العائدات النفطية ، في وقت بدأ فيه سعر النفط يرتفع بدرجة كبيرة عما كان عليه ، وفي حين حققت بنود الاتفاقية الثنائية الأهداف السعودية المنشودة من الجمع بين احتياجات التنمية السعودية ، والخبرة التكنولوجية والإدارية الأمريكية ، التي استفاد من برامجها التدريبية والتنموية آلاف السعوديين .
في هذا الإطار ، ارتبطت المملكة والولايات المتحدة الأمريكية بعلاقات اقتصادية وتجارية قوية ، تدعمها مصالح مشتركة ، جعلت الولايات المتحدة أحد الشركاء الرئيسيين للمملكة ، على مدى ثمانية عقود .
وإذا كانت زيارة الرئيس الأمريكي ترامب للمملكة في مايو 2017 تعني للمراقب دلالات وإشارات مهمة في العلاقات الدولية ، فإنه من المهم أن نذكر أنه يمكن “قراءة” القمة السعودية الأمريكية ، والقمة العربية الإسلامية الأمريكية من ناحيتين: أولاهما تتمثل في فعالية الصورة الذهنية الإيجابية ، التي نقلتها هذه “القمة” إلى العالم عن المملكة العربية السعودية ، والثانية تتجسد فيما تركته من نتائج على صعيد العلاقات الثنائية بين المملكة والولايات المتحدة الأمريكية .
ذلك أن هذه القمة ، التي شهدت ثلاثة مؤتمرات في إطار زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ، في أول رحلة خارجية له منذ توليه منصبه ، وحيث تضمنت اجتماعا ثنائيا بين الولايات المتحدة والمملكة ، واجتماعين آخرين ، أحدهما مع دول مجلس التعاون والآخر مع الدول العربية والإسلامية ، ستظل “مشهداً” تاريخيا “حاضرا” في العلاقات الدولية ، بصورته “الذهنية” في العقل الإنساني المعاصر .
كما سيظل حاضرا بنتائجه وتأثيراته في المستقبل ، ليس بحساب “الأرقام” و“الصفقات” التجارية والاقتصادية ، وإنما بحساب “الصورة” وحقيقتها ودلالاتها وانعكاساتها على المشهد الإقليمي والدولي ، و“التأثير” الذي تركته في عمق الوعي بالقوى الفاعلة في الإقليم وفي العالم .
لقد تركت المملكة أثرا كبيرا في عالمها الذي راح يُتابعُ مشهدا جديدا تمثّلَ في القمم السعودية – الأمريكية – العربية – الإسلامية ، مشهدا سيكون له تداعياته المستقبلية ، على صعيد العلاقات الدولية .
وفي القلب من ذلك ، تتأكد صورة المملكة كفاعل مهم ، ذي حضور في إقليمه ، وفي القضايا الدولية ، وعلى صعيد “التأثير” و“الحضور” الإقليمي والدولي الفاعل للمملكة في عالمها المعاصر ، وعلى صعيد العلاقات الثنائية ، وفي إطار زيارة الرئيس ترامب للمملكة ، والتي وصفها أكثر المراقبين بأنها “تاريخية“ .
ويأمل الكاتب بأن ينتج عن الانتخابات الامريكية الحالية ، ما يحقق مستقبلا أفضل من العلاقات السعودية الامريكية .