مع تطور النظم الزراعية والتحول إلى ما يعرف بالزراعات الأحادية والمكثفة التي تتطلب أستعمالاً مركزاً للأسمدة الكيماوية وللأدوية الزراعية، ومع التغير المناخي وحالة الدفيئة التي يتعرض لها كوكب الأرض، ظهرت مشكلة تدهور حالة التربة الزراعية land degradation والتصحرdesertification . التربة، التي تعتبر من أهم الموارد الطبيعية غير المتجددة والمحدودة، هي الركن الأساس في عملية إنتاج الغذاء لسكان الأرض الذين بلغ عددهم أكثر من ثماني مليار شخص. إن تدهور حالة التربة يؤدي إلى إنخفاض أو فقد الإنتاجية وتعقيد العمليات الزراعية تقنياً وأرتفاع كلفتها مما يجعل العملية الأنتاجية غير مجدية للكثير من المزارعين حول العالم وخاصة هؤلاء الذين يستثمرون الأراضي الواقعة في الأقاليم الجافة كمنطقة الشرق الأوسط.
إن الأراضي التي تتعرض للتردي موزعة على كافة الأقاليم المناخية على كوكب الأرض ولكن آثارها تظهر بشكل أكبر في المناطق الجافة والصحراوية التي تسيطر على مساحة كبرى من العالم العربي. أصبح من المعروف بأن تدهور التربة والتصحر ينتج عن ظروف طبيعية متعلقة بالمناخ وبنظام هطول الأمطار وهي ظروف يصعب السيطرة عليها وعن أنشطة بشرية تترك آثار سلبية على البئية بشكل عام وعلى التربة بشكل خاص. إن الممارسات البشرية غير السليمة المتبعة في المجال البيئي والأستغلال الخاطئ للموارد الطبيعية وسوء إدارة النظم البيئية والإستعمال المكثف للكيمياويات في عملية الإنتاج الزراعي المتبعة منذ أواسط القرن الماضي، كانت السبب الأساس في تدهور التربة وتصحرها في الكثير من البلدان وخاصة الجافة منها.
لقد بينت الدراسات بأن أحد أهم أركان الحفاظ على خصوبة التربة هو التنوع والتوازن الحيوي الموجود فيها والذي يؤدي الدور الأساس في عملية تدوير المواد العضوية والمعدنية ضمن سلسلة متكاملة ومتكافلة من عمليات التفكك والتحول التي تخضع لها كل من المادة العضوية والعناصرالمعدنية التي تشكل التربة والتي تؤمن البيئة الحاضنة لجذور النبات. فالتربة التي هي عبارة عن جزئيات معدنية-عضوية مجمعة بأشكال وأحجام مختلفة مخترقة بمسام تسمح بدخول الماء والهواء، هي أيضاً بيئة حية تحتضن أنواع متعددة من الكائنات الدقيقة النافعة التي تعيش في التربة وتتفاعل معها لتنتج محيط حيوي يناسب نمو الجذور التي بدورها تفرز مواد سكرية لجذب هذه الكائنات الدقيقة النافعة فتشكل بذلك حاجزاً طبيعياً وحماية حيوية ضد الأمراض الفطرية والبكتيرية وضد الطفيليات التي تهاجم الجذور.
إن النشاط الحيوي في التربة يخضع لعدة عوامل منها الحرارة والرطوبة ودرجة الحموضة وتوفر المغذيات والأعمال الزراعية المطبقة والمدخلات الكيماوية كالأسمدة والأدوية وبعض الممارسات الأخرى كالزراعات الأحادية والمكثفة. لقد تبين لعلماء التربة بأن تطبيق نظم زراعية تعتمد بشكل أساسي على المدخلات الكيماوية أدى إلى تدهور عدد الكائنات النافعة في التربة مما تسبب بتردي حالها وخسارة خصوبتها نظراً للتأثير السلبي لهذه المدخلات على هذه الكائنات النافعة الموجودة في التربة والتي تؤمن بيئة مناسبة لنمو الجذور وخلوها من الأمراض وبالتالي، الحصول على إنتاج جيد من حيث الكمية والنوعية. لقد أصبح واضحاً بأن وجود هذه الكائنات النافعة في التربة هو الشرط الأساس لضمان خصوبة التربة والحفاظ على خصائصها الحيوية والفيزيو-كيميائية مما يسمح بإنتاج محاصيل جيدة بطريقة مستدامة. تؤمن هذه الكائنات الكثير من الوظائف الأساسية في التربة حيث أن تواجدها بأعداد جيدة يؤمن التوازن الجرثومي ويمنع سيطرة الجزء الضار منه الذي يسبب أضرار بالغة في المحصول ويؤدي إلى خسائر مادية كبيرة للمزارع. إن تواجدها بأعداد جيدة يحارب عدد كبير من الآفات التي تصيب النبات كالبيثيوم والفوزاريوم والريزوكتونيا والتريكوديرما والبياض الدقيقي وغيرها من الأمراض الفطرية التي تتسسب بخسائر مادية كبيرة كون معالجتها كيميائياً يؤدى إلى ضرر بيئي وصحي كبير.
لقد تبين من خلال الأبحاث والتطبيقات العملية بأن هذه المكروبات المفيدة تلعب دوراً أساسياً في تعزيز أستخدام المياه وفي عملية أمتصاص المغذيات لدى النباتات وخاصة الفوسفور وتشارك، بشكل فعّال، في تثبيت النيتروجين الهوائي مما يسمح بتسميد آزوتي طبيعي ومجاني وهذه العمليات تؤدي إلى تقليل الحاجة لمياه الري وللأسمدة الصناعية. من جهة أخرى، تقوم هذه الكائنات النافعة بتفكيك المادة العضوية الميتة في التربة وتؤمن بذلك العناصر المعدنية الضرورية للنبات كما تقوم بتدوير المعادن الثقيلة من خلال أمتزتها وبتفكيك الجزيئيات الكيماوية الملوثة والمسببة لتملح التربة وبالتالي، فهذه الكائنات النافعة تشكل عنصراً ضامناً في مجال إعادة تأهيل التربة، نزع السمية منها وإستعادة خصوبتها.
بناءً على هذه المبادئ العلمية، تغيرت نظرة الباحثين العاملين في مجال الزراعة للتربة حيث بدأ التركيز على إعادة التوازن الحيوي إليها من خلال تنشيط الكائنات النافعة أو إعادة إدخالها إلى المنظومة البيئية في التربة. في هذا الإطار، ومن خلال عملنا كأستاذ علم التربة وكمنسق ماستر التنوع الحيوي في الجامعة اللبنانية وبالتعاون مع الشركة الوطنية للحلول البيئية NESCO، قمنا بتطوير برنامج متكامل يهدف إلى إعادة تأهيل التربة، نزع التلوث الكيميائي والبيولوجي منها والدفع نحو تطبيق نظم الزراعة المتجددة Regenerative Agriculture التي تضمن تجدد التربة ورفع خصوبتها مع الأستغلال المستمر. يحتوي هذا البرنامج على عدد من التطبيقات التي تعالج تلوث التربة وتملحها بسبب الأستعمال المكثف للأسمدة والأدوية الزراعية كما يقدم معالجة فعالة للتلوث الناجم عن الري بالمياه المبتزلة والأنشطة الصناعية في مجالات النفط والصناعات الكيماوية.
لقد أعد هذا البرنامج بشكل خاص لتلبية حاجة لبنان ودول الجوار العربي حيث تتعرض التربة لضغط متصاعد ناجم عن الأستغلال المكثف للتربة وعن تطبيق نظم الزراعة الكيمائية التي تؤدي إلى تملح التربة والتصحر من جهة، وعن التلوث الصناعي والمتأتي من الصناعات الكيميائية على أنواعها.
يرتكز هذا البرنامج على منتج ((Lebanese Beneficial Microorganisms LBM الحيوي المأخوذ من التربة الطبيعية في لبنان والمحمية من كل أشكال التلوث أو التدخل البشري منذ أكثر من عشرين سنة وهو مركب من مجموعة واسعة من الكائنات النافعة المكونة من البكتيريا والخمائر التي تعمل بشكل تكاملي مع حيويات التربة فتعيد لهذه الأخيرة خصوبتها. إن الإستعمال المتكرر لهذا المركب ينتهي بالسيطرة على كل أشكال التلوث البيولوجي والكيميائي في التربة ويسمح بالحفاظ عليها كمورد طبيعي أساسي لتأمين الأمن الغذائي. كما قمنا بتطوير منتج
ISDAR (Integral Soil Decontamination, Activation and Rehabilitation)
الذي يحضّر، بطريقة خاصة، من المواد العضوية النباتية والحيوانية يؤدي وظيفة محددة في عملية تدوير الملوثات الكيميائية والبيولوجية التي من الممكن أن تصيب التربة وهو يؤمن البيئة المناسبة للكائنات الدقيقة النافعة الأصيلة والمضافة فيساهم، بشكل كبير وبطريقة تكاملية، بنزع السمية والتلوث من التربة وبإعادة أحيائها بيولوجياً وهو يعمل على أعادة تكوين البيئة الحاضنة لتكاثر الحيويات النافعة التي تصلح هيكلية التربة وتجدد خصوبتها.
لقد بينت التجارب بأن تطبيق هذه التكنولوجيا المتطورة المبنية على ال LBM وعلى ال ISDAR تؤدي إلى أستعادة خصوبة التربة من الموسم الأول وإلى زيادة ملحوظة في الإنتاج قد تصل إلى أكثر من 25 %. ففي ظل التدهور الكبير في حال التربة في العالم العربي والناجم عن نظم الزراعة المكثفة التي تتطلب الأستعمال المفرط للأسمدة والأدوية الزراعية وعن أستعمال مياه مالحة للري في بعض المناطق وخاصة في دول الخليج العربي، يمكن التأكيد بأن هذه التكنولوجيا هي السبيل الوحيد لمعالجة التربة المتدهورة ونزع سميتها وإعادتها إلى حلقة الإنتاج وبالتالي الحفاظ على هذا الثروة التي تشكل الركيزة الأساسية في عملية الإنتاج الزراعي. إنها تقدم الحل البيئي الأنسب والأقل كلفة لمشاكل التلوث التي تتعرض لها التربة الزراعية في العالم العربي وتساهم، بشكل كبير، بتحصين امننا الغذائي.
أستاذ دكتور حسّـان مخلوف