هنا لقاء طويل (12500 كلمة في النص الإسباني الأصلي) أجراه الصحافي وأحد مؤسسي أسبوعية “Perfil” الأرجنتينية خورخي فونتيبيتشيا مع جيجك ونشرته الصحيفة في 9 أيلول/سبتمبر 2018:
متى زرت الأرجنتين آخر مرة؟
منذ حوالي عشر سنوات.
وماذا تتذكر عن البلد في ذلك الوقت؟
أتذكر تفاصيل خاصة كمركز Ateneo لبيع الكتب والمكتبات الجميلة والتي هي أيضاً مقاه؛ أو المطاعم، ليس الغالية منها بل المعتدلة، الأماكن الشائعة لتناول الطعام، أشياء مثل سندويش الـ El choripán. كيف بوجود هذا السندويش لا يزال هناك حمقى يرغبون في تناول الطعام في ماكدونالدز في الأرجنتين؟ لم أفهم ذلك أبداً… تلك الحياة اليومية، تلك الشوارع الممتلئة حياةً في الليل في بعض الأماكن… أتذكر بوينس آيرس كمدينة. في الولايات المتحدة تختفي المدن، والآن جميعها مراكز للتسوق. الحياة العامة تختفي. ولهذا السبب، فإن بوينس آيرس واحدة من ذكرياتي المحببة عن الأرجنتين. هذا يمكن أن يلفت انتباهك: بما أنني مصاب بمرض السكري، فقد فاجأني أمر لم أشاهده بعد ذلك -ولا حتى في بلدان أكثر تقدماً كالولايات المتحدة- وهو وجود أماكن للطعام ذات جودة عالية مخصصة لمرضى السكري. هناك عشرون أو ثلاثون نوعاً من الكعك بدون سكر، وأشياء من هذا القبيل.
غريبة هي الأرجنتين
على هذا المستوى، نعم. لسوء الحظ، كنت دائماً مشغولاً لدرجة أنني لم أستطع الاستمتاع بها أكثر. أنا رجل مجنون يحب الطقس البارد. حلمي، كما يمكن أن نتخيل، أن أكون في وسط جبال أرخبيل أرض النار في الجنوب. تلك الجبال…
جبال الأنديز…
نعم، بالطبع. ربما يميّز الناس الأرجنتين أكثر عبر تلك الكليشيهات: منخفضات البامبا و… وكيف تسمون رعاة البقر أولئك؟
غاوتشو
غاوتشو! التنزه على ظهر الخيل. لكني قرأت في التاريخ الأرجنتيني أن هذه الصورة قد صُنعت في بداية القرن التاسع عشر من قبل الزوار البريطانيين.
قسم من أوائل من كتب عن أمريكا الجنوبية
لطالما فتنني تاريخ الأرجنتين. أحب دائماً أن ألعب دور محامي الشيطان. في ذلك الوقت كنت أستطيع أن أقرأ قليلاً باللغة الإسبانية وفوجئت بشخصية الدكتاتور خوان مانويل دي روساس في عقود 1820 و1830 و1840. لم يكن ببساطة وحصرياً شخصاً سيئاً، بل أكثر تعقيداً بكثير. لقد سحرني التاريخ الأرجنتيني، لكن يجب أن أقول لك إنني لم أفهم مطلقاً الحركة البيرونيّة El Peronismo، وهذا ما أدهش عديداً من الأشخاص بالضبط لأنني أنتمي بطريقة ما إلى اليسار. أعلم أن هناك بعض الميول اليسارية في البيرونية، لكن يبدو لي أن الوصفة الأساسية في البيرونية لا تزال الفاشية الشعوبية. حكومة قوية ومتسلطة تسيطر على كلا الطرفين، العمال ورأس المال، وتحاول تقديم بعض العدالة، ولكن بالنسبة لي، فإن هذا لا ينجح أبداً على المدى الطويل، بسبب الفساد والشلل. بالتالي، فلم تغرني البيرونية أبداً. أنا يساري راديكالي، لكني لست ساذجاً، لا أتوقع ثورةً أو أي شيء من هذا القبيل. أنا يساري فقط بمعنى أننا نتجه بوضوح نحو مشاكل خطيرة. يا إلهي! حتى رموز الشركات الكبرى مثل زوكربيرغ (وهو أحمق لكن ذلك غير مهم) وبيل غيتس وآخرون باتوا يقولون إن الرأسمالية لا يمكنها أن تستمر إذا ما بقيت على حالها. لا أعتقد أن الشعبوية هي الحل. كان هذا أيضاً السبب في أن علاقاتي انتهت بشكل سيء للغاية مع إرنستو لاكلاو Ernesto Laclau وشانتال موف Chantal Mouffe، اللذين يقترحان صيغة تقول بالشعوبية اليسارية.
والتي لا تُدرج نفسك ضمنها
لا. فكرة نسيان المخططات الإيديولوجية والاستماع إلى الناس حقاً: إلى مشاكلهم وما يهمهم فعلاً وماذا يريدون وما الذي يقلقهم. أنا لا أثق بالمثقفين فهم لا يقدمون حلولاً، لكن هل تعتقد أن الناس العاديين أفضل؟ لا أعتقد ذلك. لدي دائماً مشكلة حتى مع صديقي المقرب يانيس فاروفاكيس الذي يتمتع بشعبية كبيرة منذ أن كان وزيراً للمالية في اليونان. لديه فكرة أن على الناس التصويت بحرية للتعبير عما يريدون. لكن انظر إلى أزمة المهاجرين. الغالبية في أوروبا ضد المهاجرين. إذن، هل يجب أن نثق بها؟ لا. أعتقد أننا في وضع معقد للغاية حيث هناك حاجة إلى نوع من نظرية أو من معرفة أعمق. لا يمكنك لعب تلك اللعبة الماويّة القديمة التي تقول “فقط نستمع إلى الناس”. إذا قمت بذلك، فسوف تسمع الكثير من العنصرية العفوية. حتى حين نريد تحديد المشكلة علينا أن نفكر. البيئة على سبيل المثال. الناس ينسون ذلك. ينسون ثقب الأوزون والاحترار العالمي، والمرء لا يصعد إلى الفضاء لرؤية ذلك، إنه العلم من يقول. هذه هي المشكلة الكبيرة بالنسبة إلى اليسار: الرأسمالية تقترب من مشاكل كبيرة، لكن اليسار لا يملك اليوم إجابة متماسكة ليقول ما يجب أن نفعله. تلك كانت مأساة تشافيز الحقيقية في فنزويلا. بالنسبة لي، كان تشافيز عبارة عن فيدل كاسترو مع مال كثير. لم يكن يحل المشاكل، لكن كان لديه ما يكفي من المال لرمي نفسه في المشاكل. كان يجرّب طوال الوقت: الإدارة الذاتية للعمال ومنحهم مصانع وتعاونيات. ربما نجح في مكان ما، أما على الصعيد العمومي فلا. هذا هو السبب في أن علينا كيساريين، بدلاً من أن نندب الرأسمالية العالمية والأشكال الجديدة من الفاشية، أن نسأل أنفسنا بجدية: ما الذي لدينا لنقدمه؟ هل لدينا بديل؟ كيف نطبقه؟ إنه وضع مأساوي.
الفكرة القائلة بأن ترامب يمكن أن يكون أول رئيس بيروني في أمريكا الشمالية جزء من نرجسية الأرجنتينيين أم أن البيرونية قد انتصرت في الولايات المتحدة؟
في جوهرها، كانت البيرونية شكلاً من أشكال الفاشية (على الرغم من أنها أكثر نعومة من النازية)، إلا أنني لا أحب هذه الفكرة. فالقول بأن ترامب فاشي يبسط المصطلحات. لا يعني الأمر أنه أفضل، ولكن يساريي اليوم حين يرون شيئاً لا يعجبهم، وعوضاً عن تحليله، يستسهلون أن يطبقوا عليه المصطلحات القديمة: “آه، عادت الفاشية!”. ليس الأمر على هذا النحو. ليس علينا أن نركز على ترامب بل على فشل المؤسسة السياسية الأمريكية التي فسحت له المجال. الحدث المهم هو فشل ما كنا نسميه بعبارات ماركسية “الهيمنة الأيديولوجية”. انفتحت لدى الشعب فجوة من عدم الثقة بالعملية السياسية السائدة وترامب ملأ تلك المساحة. كيف؟ نعم، ربما بشكل بيروني جامعاً بين اليسار واليمين. لهذا السبب أجد أن شخصاً كستيف بانون Steve Bannon، مستشار ترامب السابق، مهم للغاية. فقد كان باستمرار يلعب لعبة مغازلة السناتور بيرني ساندرز بإدراج بعض المطالب اليسارية التي لا يجرؤ أي اشتراكي ديمقراطي على تطبيقها. أما الخلاف بين بانون وترامب فكان أن الأول أراد زيادة الضرائب، وليس خفضها، بنسبة 45٪. لقد فوجئت عندما أخبرني صديق بولندي أن الحكومة المسيحية المحافظة في بولونيا –حكومة كاتشينسكي الشهيرة- قد نفذت بعض التدابير الاشتراكية، مثل تخفيض سن التقاعد أو تقديم مزيد من الاهتمام بالصحة، والتي لم يتشجع أي حزب يساري معتدل من الاتجاهات المهيمنة على القيام بها. الشيء نفسه في فرنسا: كان حزب مارين لوبان الوحيد بين الأحزاب الكبرى التي توجهت مباشرة إلى الطبقة العاملة. إن عدوي هو الأيديولوجية اليسارية المهيمنة أي أخلاق “ما هو صائب سياسياً”. فترى هذا اليسار الليبرالي الحديث يركز بشكل مفرط على مشاكل مثل النسوية أو التعددية الثقافية مما يفقده صلاته مع الناس العاديين فيترك مساحة شاغرة يملؤها اليمين الشعبوي. أنا لا أقترح أي نوع من الثورة، هذا جنون. أعتقد فقط أنه لا يكفي تسول عودة المؤسسة القديمة. ترامب غيّر الوضع. لا يمكننا العودة إلى المنطق القديم. ترامب هو دليل على أن هذه المفاهيم لا تعمل. إذا كانت هناك اختلافات ثقافية أو دينية أو عرقية كبيرة جداً، فلا يمكن الحكم من خلال سلطة الأغلبية، بل من الواجب إنشاء تحالفات. هذا ما هو مفقود اليوم، الإجماع الذي كان موجوداً قبل ترامب. ترامب أكثر راديكالية بكثير. ليس مجرد تبادل بسيط في إطار إجماع ما، بل إن الإجماع نفسه يتغير. أقول دائماً: “استعادة لينين اليوم”، ولكن ليس بمعنى القيام بنفس الشيء.
هذا عنوان كتاب لك
نعم، لكني أوضح أن لينين قد مات. الاستعادة تكون في القيام بما قام به ولكن بشكل دقيق وعبر تصحيح أخطائه. هل تعرف أي لينين يعجبني؟ خلال الحرب العالمية الأولى، لم يكن لينين فحسب، بل اليسار الاشتراكي الديمقراطي برمته، مرعوباً من النزعة الوطنية. صوّت جميع هؤلاء الاشتراكيين الديمقراطيين في أوروبا لصالح اقتراض النقود لخوض الحرب. كان لينين محطماً. فماذا فعل؟ عزل نفسه في سويسرا وبدأ يقرأ هيغل. هذا هو لينين الذي يعجبني، فكرة أن “عالمنا القديم قد مات، وليس لدينا إجابات بسيطة على ذلك. لا يكفي التمسك بالخط القديم، علينا إعادة النظر في كل شيء”. أنا لست واحداً من هؤلاء الأغبياء التروتسكيين الذين يقولون: “آه، لو عاش لينين سنتين أو ثلاث سنوات أخرى، لكان لدينا اتحاد سوفيتي مختلف”. لا. بطريقة ما، على مستوى أعمق، كانت الستالينية لتكون النسخة الأكثر احتمالاً. لكنني لا زلت معجباً بشخصية لينين. أولئك الذين يحاولون تبرئته يستشهدون بوصيته الشهيرة التي يقول فيها “يجب أن نخلع ستالين”. لكن ما هي الحجج ضد ستالين؟ ليس خطه السياسي -وهذا أمر مثير للدهشة- بل اللباقة. يقول لينين إن ستالين شرس وغير مهذب. وليس فقط ستالين، بل إن لينين في سنواته الأخيرة كان يرى أن بذائة الحياة السياسية خطيرة للغاية وأصبح مهووساً بفكرة اللباقة في التخاطب وأن يكون المرء أكثر تهذيباً. هذا يتزامن عرضياً مع ترامب، حيث ندخل حقبة جديدة من البذائة السياسية. أن تكون لينينياً اليوم لا يعني العودة إلى لينين، بل التخلي حتى عن لينين. في أحد كتبي، أقتبس نصاً رائعاً كتبه لينين عن تسلق الجبل: “في الصيرورة الثورية، يرى المرء أنه على الطريق الخطأ وأن عليه النزول إلى نقطة البداية والبدء من جديد”. هذا ما على اليسار القيام به. لا نعرف ما الذي يحدث اليوم، أي نوع من المجتمع الجديد سيظهر. ولهذا السبب، قلت، ما يرعب أصدقائي اليساريين، أن صيغتنا لا ينبغي أن تكون أطروحة ماركس رقم 11 حول فيورباخ التي تقول “الفلاسفة لم يفعلوا سوى تفسير العالم، لكن الأمر يتعلق بتغييره”. يجب أن نقلب هذه الأطروحة، لأننا ربما حاولنا في القرن العشرين تغيير العالم بسرعة كبيرة دون معرفة ما كنا نفعله. يجب أن نرجع خطوة إلى الوراء ونعيد تفسير العالم. منذ وقت ليس ببعيد كنت في باريس والتقيت مع صديقك غاي سورمان Guy Sorman. ما الذي يحدث اليوم في الصين؟ يقول سورمان إن الصين ليست رأسمالية حقيقية. حسناً، ولكن بعد ذلك: ما هي؟ بالنسبة لي، الصين هي أكثر درس محزن بالنسبة لنا. لنعترف من ناحية أن ما حققوه في الأربعين سنة الماضية مثير للإعجاب. لا أعتقد أنه وجدت فترة زمنية -ولا حتى في الرأسمالية الأمريكية الأولى- انتقل خلالها بلد ما من الفقر إلى هذه التنمية الهائلة في غضون ثلاثين أو أربعين عاماً فقط. لكن الأمر المحزن هو أن ذلك يبين أن هذا التطور الهائل للرأسمالية يمكن أن يتوافق ويعمل بشكل جيد مع دولة استبدادية.
ماذا سيكون مستقبل الصين عندما يسقط الاعتقاد البريء بأن المنافسة في السوق ستنتج منافسة في السياسة؟
لدى الكثير من الماركسيين هذه الفكرة التي تقول بأن من الواجب المعاناة الآن وأن كل شيء سيتحسن فيما بعد. حسناً، هل تعرف ما يقوله فرويد؟ ذات مرة، زار شيوعي فرويد وقال له: “علينا أولاً أن نعاني الكثير، وبعد ذلك سنحصل على الجنة”. قال له فرويد: “حسناً، أنا أصدق الجزء الأول من تأكيدك، لكن ليس الجزء الثاني…”. إذا كان لنا أن نتعلم شيئاً ما من التاريخ فيسكون أن علينا ألا نثق بأولئك الذين يعِدُون بالمعاناة الآن والسعادة فيما بعد. هذا لم يحدث مطلقاً. لكن لنأخذ مثال بينوشيه أو كوريا. لقد أدت الدكتاتورية إلى إطلاق التنمية، وعندما حدثت التنمية استسلمت الديكتاتورية لمطالب ديمقراطية راديكالية. حتى في البرازيل كان الأمر كذلك. لكن حالات مثل سنغافورة والصين تجعلني أشك في ذلك.
الحجم يغير كل شيء. ربما تكون الصين أكبر حجماً ولا يصلح لها أن تكرر سنغافورة أو كوريا أو تشيلي. لكن ما هو النظام في الصين؟ هل هو رأسمالي؟
لا، إنه شيء جديد حقاً! هو ليس الرأسمالية بالمعنى الكلاسيكي، ولكنه أيضاً ليس نظاماً تسلطياً كغيره.
هل هو مستقبل العالم؟
هذا ما أخشاه. إنه أحد الاتجاهات -وهنا يأتي ترامب- التي تجعلني حزيناً للغاية. أتذكر قبل سنتين أو ثلاث، عندما كان هناك توتر بين تركيا وروسيا حين قام الأتراك بإسقاط مقاتلتين روسيتين دخلتا من سوريا معتبرين أن ذلك يعني حرباً تقريباً. سألوني في تركيا عن رأيي بهذا التوتر فقلت: “حسناً، هنالك توتر إلى هذا الحد أو ذاك، لكن أليس أردوغان وبوتين متشابهين للغاية؟ منهج الاثنين هو القومية التسلطيّة”. ولذلك اقترحت مصطلح “بوتيغان” كتكثيف للاثنين ولهذا خشيت من دخول تركيا لمدة عام. سيحكمنا المزيد من الـ”بوتيغان” وهذا يقلقني.
هي واحدة من الاتجاهات
يتقدّم ترامب بطريقة ما أيضاً في هذا الاتجاه. هذا هو المعنى الخاص بصيغة “أمريكا أولاً”. إنها الصيغة الجديدة: “أمريكا أولاً”، “روسيا أولاً”، “الهند أولاً”.
أو “تركيا أولاً”. لكن الفرق مع الصين هو أنه في أجزاء أخرى من العالم يوجد شخص متسلط. في حالة الصين، يبقى هناك حسب معرفتي حزب مؤسساتي إن لم ينجح الرئيس الصيني الحالي بمسعاه لتغيير التاريخ
نعم. هذا سؤال مهم جداً لأن شي جين بينغ حاول إلى حد ما أن يفرض نفسه كقائد من مستوى ماو، لكن هناك بعض المقاومة ضده.
ولكن حتى الآن الفرق بين الصين والأنظمة الاستبدادية الرأسمالية الأخرى هو أن الصين ليس لديها شخص مستبد بل حزب. هل يمكن لذلك أن التغيير في المستقبل؟ لا أعتقد
ولا أنا أعتقد ذلك. إنه وضع معقد للغاية، لكن لديهم بالفعل مستبد. قرأت بعض الكتب الجيدة عن الكيفية التي تعمل من خلالها الصين بالفعل. اليوم هناك سبعة أشخاص: اللجنة الدائمة للمكتب السياسي، وما يثير الدهشة هو كيف أن كل مؤتمرات النقاش الكبرى التي يقيمونها تشبه ظهوراً إلهياً، حدثاً غامضاً، فيبقى الأعضاء السبعة مجهولين في البداية، وعند نهاية كل مؤتمر يظهر المُختارون. أعتقد أن هذا الافتقار للشفافية -عدم وجود نقاش حول من هم الأعضاء الجدد للمكتب السياسي، وأن الأسماء مجهولة وغير متوقعة- هو العنصر الأساس في الاستبداد: ذلك الظهور المتعسف من العدم حيث لا يتظاهرون حتى بأن هنالك أسماءً مطروحةً حتى للنقاش.
كما أنهم لا يدّعون وجود تقاسم للسلطات تكون فيها القضائية والتشريعية مستقلتين عن التنفيذية
هل تعرف مدى حساسية النظام الصيني في هذا الصدد؟ أنا أحب هذه الأمور العرضية والمجنونة عندما تحدث. اتهم أحد المعارضين الصينيين -وهذه قصة حقيقية- الحزب الشيوعي أمام القضاء بأنه ارتكب جرائم (أعتقد أنه كان يشير إلى تيانانمين). أعطوه إجابة بعد شهرين. وهذه ليست مزحة. هل تعرف ما هي الاجابة؟ “عفواً، لكننا قمنا بتحليل جميع سجلاتنا وليس هناك منظمة تسمى الحزب الشيوعي”. الحزب الشيوعي يحكم ولكن ليس له وضع قانوني. هذا غامض. تمارس الشيوعية الصينية بكاملها السلطة بهذه الطريقة. وأعتقد أن هذه أكثر صيغ الحكومة السلطوية نقاءً. هناك نظام قانوني معين، الحكومة والبرلمان، ولكن كل شيء يُقرر مسبقاً.
وصلت السوق بالفعل إلى العالمية ولكن الديمقراطية الليبرالية لا تزال بعيدة عن ذلك، ونلحظ بشكل متزايد أن الرأسمالية صالحة في ظل أنظمة استبدادية
هذا ما أخشاه. لست شمولياً لينينياً، بالطبع أفضل الديمقراطية. لكن ما يقلقني هو ازدهار الأنظمة الاستبدادية. بالمناسبة، يبدو لي جنوناً عندما يقول لي بعض نقادي من اليساريين: “ألا ترى أن ترامب يمثل بالفعل الفاشية في السلطة؟” لا، لنتحدث بجدية. الولايات المتحدة بلد معقد يحتوي العديد من المؤسسات المستقلة. ترامب في السلطة لا يشبه، على سبيل المثال، حين تكون مارين لوبان في السلطة في فرنسا. فرنسا أكثر مركزية بكثير، وكانت الخطورة لتكون أكبر هناك. هذا لا يخيفني، لكني أرى ان الاتجاه هو نفسه. هل تعرف ما أراه عندما تخبرني أن السوق عالمي؟ أعتقد وأكرر طوال الوقت بطريقة ساذجة للغاية أن السؤال الكبير اليوم هو: هل ما زلنا فوكوياميين؟
هل كان فرانسيس فوكوياما محقاً: الرأسمالية العالمية هي “نهاية التاريخ”؟
لا أحب عندما يحتقر الناس فوكوياما ويقولون إنه أحمق. في الواقع، كنّا جميعاً فوكوياميين، وحتى كثير من اليساريين الراديكاليين كانوا يعتقدون بأن النظام لدينا، أي الرأسمالية الديمقراطية الليبرالية، هو أفضل ما يمكننا تخيله. يمكننا إجراء بعض التعديلات عليه، كمزيد من حق الإجهاض ومزيد من حقوق المثليين ومزيد من التسامح ومزيد من الرعاية الطبية، ولكنه يبقى أساساً هكذا. حتى فوكوياما يشك في هذا الآن ويرى مشكلات فيه. أنا أراها أيضاً. البيئة، على سبيل المثال، وعلى الرغم من كل ما يتم القيام به، فإن الكوارث لا تزال ممكنة. أجزاء كاملة من العالم تصبح غير صالحة للسكن. وأنا أتفق مع فوكوياما في أن ما يحدث اليوم في حقل علوم الأعصاب مخيف. الجميع -الصين والولايات المتحدة- يقومون بأمور في هذا المجال لها عواقب فلسفية كبيرة. يجري الآن بالفعل تطوير اتصال مباشر بين الدماغ والكمبيوتر: إذا فكرتُ في شيء ما فإن بإمكانه أن يحدث. هل تعلم أنه في السنوات الأخيرة، لم يعد ستيفن هوكينغ بحاجة إلى استعمال إصبعه في التنقل؟ كان دماغه متصلاً بسلك وكان يفكر فقط في “التحرك إلى الأمام” فكان كرسيه يتحرك إلى الأمام. لكن العكس قد يحدث أيضاً: أي أن يتحكم الكمبيوتر بالدماغ. عندها، من سيفعل ذلك؟ وكيف نتحكم به؟ هذا أمر يتصل برقمنة حياتنا. إنه أمر سهل للغاية عندما يقول الأمريكيون “أوه، بوتين يؤثر على الانتخابات”. لكن لا، فاليوم نحن على علم بفضيحة كامبريدج أناليتيكا. إنها واحدة من الأشكال الجديدة للسيطرة. هل تعرف ما أجده خطيراً في كل ذلك؟ إن الأمر لا يتعلق بالسيطرة الشمولية القديمة حيث كان المرء يخاف ويعرف من يسيطرون عليه. نعيش اليوم تلك السيطرة باعتبارها حرية. ما الذي يمكن أن يكون أكثر حرية من الانطلاق وتصفح الإنترنت واختيار ما نريد؟ يتم التلاعب بنا وتوجيه وتسجيل كل شيء. ما أدافع عنه هو أن تتم ممارسة هذه السيطرة -اللازمة لمنع المواد الإباحية المتعلقة بالأطفال والعنصرية- بطريقة شفافة تُمكننا، نحن عامة الناس، من معرفة كيف تتم السيطرة علينا.
ماذا سيحدث لو أن السكان الذين يرون أن الصين أو شيلي قد نمتا بشكل أسرع مع الأنظمة الديكتاتورية صوتوا لصالح الاستبداد لأنه يحسن اقتصادهم؟ هل تتصور غالبية من الناس تصوّت لإشباع رغباتها مع ديمقراطية أقل، أو مزيداً من النمو الاقتصادي مقابل حريات أقل؟
بدون شك، لكنني سأذهب خطوة أخرى أبعد من ذلك وفي هذا أنا متشائم حقاً. سأقول إنني بطريقة ما أفهم الناس. لا أحب ردود الفعل المتغطرسة من اليسار التي تقول إنه يتم التلاعب به. لا! إنه قرار عقلاني بطريقة ما. في الصين أصبح 300 مليون صيني من الطبقة المتوسطة ويعيشون بشكل جيد نسبياً. لا يحتاج الأمر إلى تحليل نفسي عميق لفهم السبب وراء ذلك.
ترامب جزء من ذلك؟
نعم ، وأنا متشائم هنا. لست شيوعياً عتيقاً فأقول “نحن في الحزب نعرف”. لا، نحن لا نعرف! لنكن منصفين مع الشيوعية. فهي إلى حد ما قد جلبت التصنيع وهلم جرا. ولكن فيما بعد -ويمكننا تحديد أين وقع ذلك بدقة- لم تستطع الأنظمة الشيوعية التعامل مع هذه الرأسمالية الرقمية الجديدة ما بعد الحديثة، مع وسائل الإعلام الجديدة. لم تنجح الشيوعية ثم انتهت. ما أخشاه -وأنا لا أقول أي شيء ثوري فبيل غيتس والجميع يقولون الشيء نفسه- هو أن الرأسمالية، كما هي عليه اليوم، لا تستطيع الاستمرار.
هل يمكن أن تتحقق نظرية ماركس التي تقول بأن الرأسمالية ستدمّر نفسها من خلال ميلها إلى الاحتكار عبر شركات مثل غوغل أو فيسبوك أو أمازون؟
هذا سؤال جيد جداً وسيكون جوابي ما يلي. أولاً، على الرغم من كوني نصف ماركسي، فأنا أنتقد ماركس بشدة. أود أن أقول إن ماركس كان على حق، من حيث المبدأ نعم، ولكن مع اعتراضين. الأول هو أن الشيوعية في نهاية المطاف قد فشلت فشلاً ذريعاً على الرغم أنها أمّمت التعليم والصحة وجعلتهما في متناول الجميع، وبالنسبة لي، إذا ما سألتني، هذا ما يمثل الرعب الحقيقي في تجربة كوبا. هذه هي المأساة. لكن المشكلة الكبرى هي أن ماركس كان يميل إلى رؤية الطبقة العاملة، البروليتاريا المستغَلة، باعتبارها عامل التغيير. يبدو لي اليوم أنه من غير الممكن الاستمرار في هذا الاعتقاد، فمواصفات “عامل التغيير” لا تنطبق على الطبقة العاملة الحالية، فذلك البروليتاريّ الكلاسيكي سنجده اليوم يعمل في شركة ضخمة. حسناً، وسيقومون باستغلاله، لكنه سيتمتع بضمان صحي دائم وتقاعد. يكاد يكون الأمر مثالياً، ويمكن لذوي الحظوة القيام به. اليوم هناك عمال فقراء وطلاب لا يستطيعون العثور على عمل ومهاجرون، ولا أرى نفس الإمكانية الثورية عند هذه الفئات.
لم يعد الصراع الطبقي ممكناً؟
يحلم جميع أصدقائي اليساريين بأن يخرج العنصر الثوري الجديد من هناك. لا أعتقد أن هذا هو الحال. على أي حال، قام ماركس بإجراء التحليل الأكثر فعالية للرأسمالية، لكن يجب علينا أن ندرك التغييرات التي تحدث. هل ندرك أنه وبسبب هذه النزعات الاحتكارية فإن هنالك حاجة إلى قوانين قوية تقرّها الدولة من أجل احتواء السوق؟ لأن السماح للسوق بالعمل بحرية مطلقة سيؤدي إلى أن يدمر السوق نفسه. كما أنه ليس صحيحاً أن السوق مؤلف من شركات كبيرة تتبع قوانين ناظمة. إن الآليات الدولتية تصبح أقوى بشكل متزايد. الأمر الثاني الذي يهمني بخصوص الأسماء التي ذكرتها، الاحتكارات الجديدة -غوغل، أمازون، فيسبوك- هي أمر لم يكن من الممكن لماركس أن يتوقعه. أحاول في كتابي أن أفسر من أين تأتي الأموال، تلك الأرباح الهائلة. إنها ليست أرباحاً، بل إيجارات. ماذا تفعل مايكروسوفت؟ نحن جميعاً متصلون ببعضنا البعض وبحاجة إلى وسيلة، وهي وسيلتنا المشتركة. بيل غيتس لديه احتكار (إلى هذا الحد أو ذاك) لهذه المسألة. ثم يخصخص مساحتنا المشتركة. نفس الشيء أمازون، حيث يشتري المرء الكتب. فيسبوك، الفضاء المشترك لحياتنا الخاصة. لذا فهي ليست أرباحاً. ليس من الصحيح القول إن بيل غيتس يستغلنا. إنه لا يستغل عماله، بل إني أعتقد حتى أنه يدفع لهم بشكل جيد نسبياً.
ولا يحتاج الكثير من العمال
نحن ندفع له أجرة حتى أتمكن من التواصل معك. إنه شيء جديد لم يكن لماركس أن يتنبأ به. كان ماركس يعتقد أن الأرباح تتوقف حين يوجد شيء مشترك.
تنبأ ماركس بأن عدم عدالة الرأسمالية ستزداد أكثر فأكثر بواسطة الاحتكار مؤدية إلى دمارها الذاتي، ولكن الرأسمالية قدمت جواباً لتصحيح ذلك عبر قانون منع الاحتكار عام 1910 في الولايات المتحدة. ولكن اليوم، مع هذا النوع من الشركات في Silicon Valley، تعود الرأسمالية إلى ما قبل عام 1910 وقتما كانت توجد احتكارات بدون قواعد
لكنها احتكارات مختلفة. المشكلة الأولى هي أننا نعيش تلك الاحتكارات باعتبارها المساحة الوحيدة لحريتنا اليومية. أما الأمر الثاني، فيبدو لي أن جوليان أسانج قد بيّن لنا مدى الارتباط الوثيق بين “غوغل” ووزارة الخارجية الأمريكية. أنا لا أقول أننا نستطيع تجنب ذلك تماماً، يبدو لي فقط أننا يجب أن نكون مدركين لطريقتهم في التحكم بنا.
أظهر توماس بيكيتي Thomas Piketty في كتابه “رأس المال في القرن الواحد والعشرين” (2013) أن توزيع الدخل في البلدان المتقدمة قد تدهور منذ سقوط جدار برلين بسبب الاحتكارات العالمية
ولكن هل تعرف ما أعتقد أنه مشكلة كبيرة؟ قرأت بيكيتي وهو ممتاز. لكنه عندما يتحدث عن مسألة ما يجب فعله، يصبح طوباوياً. وهو يعترف بأن الرأسمالية هي النظام الوحيد الذي يعمل حقاً، وهو بالتالي يرغب بأن يقوم النظام على ما هو عليه بحل المشكلة عن طريق زيادة الضرائب، وهو ما لا يمكن تطبيقه إلا إذا قامت كل الدول بالأمر نفسه، الأمر الذي يجعل هذا الحل غير واقعي.
لنتفق: في بداية القرن الماضي، كانت الرأسمالية غير عادلة لدرجة أدت إلى ولادة الشيوعية. اليوم، انعدام العدالة الرأسمالي الجديد هو ما يولد الاستبداد. الاستبداد هو نتيجة عدم قدرة الرأسمالية حالياً على تصحيح نفسها بنفسها، ومرة أخرى -كما في بداية القرن الماضي- هناك احتكارات
أود أن أقتبس من زميل في مدرسة فرانكفورت، فالتر بنيامين، الذي يقول “كل فاشية هي علامة على ثورة فاشلة”. أنا لا أتحدث عن تدمير الرأسمالية بواسطة الملكية المشتركة (كل النماذج الشيوعية القديمة لا تصلح)، لكنني ما زلت متشائماً جداً. حتما سنضيع إن لم نجد طريقاً ثالثاً، غير طريق توني بلير بالطبع، بل طريقاً بين الرأسمالية الليبرالية وردود الفعل الفاشية هذه. أنا لا أؤمن بالطبع بثورة كلاسيكية وكل ذلك سيكون جنوناً. أنا فقط ألعب مع الأفكار. لا أعرف ما يكفي في الاقتصاد، ولكن ما رأيك في تشديد الضوابط المالية؟ لا أعرف ما الذي يمكن فعله في هذه المسألة، لكني أعلم أنه حيثما تم تطبيقها فإنها يمكن أن تعمل. انظر إلى أزمة عام 2008. لماذا نجت الصين بشكل جيد؟ لأن لديهم دولة استبدادية وتمكنوا من فرض ضوابط مالية. ربما هذا يمكن أن يكون الخطوة الأولى. في الغرب فلا يمكن للمرء أن ينتهك الحريات الاقتصادية.
ذكرتَ أن الوضع الحالي يشبه الوضع قبل الحرب العالمية الأولى، حيث فقدت إنكلترا التي كانت القوة المسيطرة حينها (اليوم هي الولايات المتحدة) هيمنتها مما أدى إلى ظهور منافسين متعددين. ونفس الشيء ينطبق على الاحتكارات: لقد عدنا إلى ما قبل عام 1910 قبل قانون مكافحة الاحتكار
نعم، أنا أوافق تماماً. وهذه هي المأساة. نحن في وضع معاكس لوضع الشيوعيين الكلاسيكيين. عندما كنت صغيراً، في الستينيات، كانت توجد دولة رفاه نسبياً، على الأقل في أوروبا، لكن الشيوعيين كانوا يقولون “لا، النظام فاشل” ويقترحون نموذجاً لما يجب فعله. كانت تلك خَدِيعَة اليسار حينها، فعلى الرغم من أن المرء كان يعيش بشكل جيد نسبياً، إلا أنهم كانوا يقولون إننا مستَلبون وأن الوضع لا يطاق. اليوم الوضع معاكس: هناك أزمات وصراعات، لكن اليسار لا يقدم إجابة، وهذا هو السبب وراء هروبه المتزايد نحو الأخلاقوية. أرى نزعة الصواب السياسي Politiquement correct، كل هذا الهوس بطريقة الكلام وحقوق المثليين، والذي هو أمر جيد، لكن هل هذا هو الجواب الوحيد؟ إذا كان الأمر كذلك، فيمكننا إغلاق كل شيء.